الخلوة

حينما تخلو إلى الله تماماً، حينما تجلس في حضرته صامتاً صمتاً مقدساً، ترى صورتك في مرآة الله! وتكتشف قبح منظرك وأنك لست تشبهه في شيء

ومن فرط حنان الله عليك، لا يريك كل خزيك وعريك مرة واحدة، لئلا تُبتَلع نفسك من فرط الحزن. وإنما يكشف لك الرب قليلاً قليلاً صفحات من قضايا زناك وكبريائك وغضبك وتمردك وسرقتك ونميمتك وحسدك وغيرتك، ويريك أنها لازالت قائمة ضدك إنما تحت الحفظ مختومة بدم يسوع المسيح في انتظار توبة صادقة وعهد مقدس.

إن اكتشاف الإنسان لخطاياه نعمة كبرى لأنه الطريق الوحيد الموصل إلى الشفاء منها

في الصمت سوف ترى عيوبك وخطاياك واضحة تتقدمك للقضاء

في الصمت أيضاً ستجد فرصةً للتوسل والبكاء لتغسل بدموعك قذر أعمالك. فإنك لا تخرج من لدن الله إلا وقد أُعطيت كل مرة زوفا جديدة تغسل بها نفسك حتى تبيض جداً أكثر من الثلج.

ولكن لا تحسبنَّ أن الابتعاد عن الناس فقط خلوة، أو الدخول إلى المخدع المغلق هو الصمت… كلا، فالخلوة تكون في القلب أولاً والصمت يبدأ من العقل قبل الفم. الإنسان الذي دخل إلى الخلوة قد أفرغ قلبه من كل شيء: من الفرح ومن الحزن، من الأمل ومن اليأس، من الحب ومن البغضة، قد أهمل كل اهتمام وكل تفكير وسلَّم كل شيء كمن استعد لدخول القبر

ليس في الخلوة والصمت نصيب لنشاط الجسد، فهي مجال للنفس المحبوسة لتنطلق منفردة وتباشر نشاطها.

في بدء التمرين على الخلوة سيتململ الجسد ويثور العقل لأنهما سيشعران بظلمة القبر، حيث تكون النفس أيضاً لا تزال تعاني آلاماً وضيقاً في التحرر من سجن الجسد وظلمة حواسه. وهكذا ربما يواجه المختلي بعض الضيق في بدء الخلوة، ولكن هذه هي النقطة الحرجة التي تحتاج إلى صبر وإيمان. وليس عسيراً على النفس اجتيازها، إذ أنها تشعر أن النور قريب وأن وراء ظلمة القبر مجد القيامة

والخلوة ليست فترة نقضيها في هدوء بعيداً عن الناس ثم تنقضي، فنعود إلى سابق عهدنا بثرثرة الكلام والنقاش والمجادلات والضحك والتحدث عن السياسة وقراءة الجرائد ودينونة الآخرين.إن الخروج من الخلوة هو بمثابة القيامة من القبر تحتاج فيها النفس إلى هدوء واحتراس وصمت والبعد عن الناس بقدر الإمكان "لا تلمسيني" (يو 17:20)، ولكن لا تحتاج إلى كبرياء وترفعُّ أو الازدراء بالآخرين: "جسوني وانظروا … وأكل قدامهم!!" (لو39:24 و43)

في بدء تدريبك في الخلوة لا تحاول أن تُجهد حواسك للشعور بالقداسة أو محاولة رؤية شيء عن الله، لأنك بهذا سوف تـُجهد عقلك وجسدك بلا طائل، فالله لا يُرى بالجسد ولا يُدرك بالحواس

العمل الوحيد الذي تقوم به أثناء خلوتك هو أن لا تعمل شيئاً… انتظر الله بهدوء ولا تسعى وراءه لا بالخيال ولا بالبحث عنه في الخليقة المنظورة لأن كل هذه المحاولات سوف تعطل انطلاق النفس والوجود في حضرة الله

وإن كان هناك ثمة عمل يمكن أن يقوم به الإنسان فهو أن يتأمل في نفسه بانسحاق واتضاع كثير، بحزن وتألم على الخطايا التي ارتكبها

 


الأب متى المسكين

حياة الصلاة الأرثوذكسية