غاية الحياة المسيحية


نوعان من الحياة في خلقة الإنسان:

منذ خلق الله الإنسان ، والإنسان يحيا نوعين من الحياة:

حياة خاصة في نفسه نسميها حياة التفرد ، وهي التي يخلد فيهاإلى نفسه ويتحدث مع خالقه منجذبًا إلى الله انجذابًا طوعياً.

وحياة عامة تجاه الآخرين، وهي التي فيها يتعامل مع الناس بكلصنوفهم ، من أصدقاء وأعداء ، أهل وخصوم، أسرة وكنيسة ، وكل أفراد المجتمع الذييأخذ منه ويعطيه.

والذي نلاحظه أن عناصر كل نوع من الحياتين ليست عوامل مضافةإلى خلقته ولكنها كوامن هذه الخلقة وصفاتها الغريزية المنغرسة فيها.

الحياة الأولى: حياة الخلود إلى النفس والحديث مع الله(التفرد)

فالإنسان في خلوده إلى نفسه وفي حديثه مع الله في حياته الخاصةلا يأتي ذلك افتعالاً أو تغصبًا ، إنما انجذابا بدافع صلة أساسية تشد النفس إلىمصدر وجودها وخلقتها. لأن الإنسان ، حقا مخلوق على صورة الله ، والصورة تنزع نحوأصلها، وهي في نزوعها المكبوت نحو الله تحاول أن تتغير لتصير حسب خالقها، بنداءخفي يدعوها إلى ما هو أفضل دائماً ويحاسبها على ما هو أردأ ، وهذا يكون هدفــًاأصيلاً للنفس ، تسعد به مهما كان اخفاقها في تحقيق الكمال منه، وتبتئس عند البعدعنه أو عند تجاوزه وإهماله بؤسًا مريعًا ، قد تحسه النفس وتعرف سببه ، وقد تعيشهدون أن تعرف سببه ومصدره. فالله مصدر سعادة للنفس، ولكنه مصدر غير معلن إعلانًاخارجيًا، تحسه النفس ولكن لا تستطيع أن تفصح عنه، بل وقد تتأثر به وهي لا تزالتجهله.

إذن، فالحياة الخاصة ، أي حياة التفرد والخلود والسكون الداخليوالاقتراب من الله ، هي هدف من أهداف الحياة بل ومن أهداف خلقة الإنسان ذاتها ،لكي يعيش مع الله ويحيا معه الحياة الأبدية.

فغاية خلقة الإنسان أن يعيش مع الله، وهذه قد ابتدأ بهابالفعل. فآدم أولاً ثم حواء بعدئذٍ، كان يعيش مع الله ويحيا في حضرته، يستمع إليهويطيعه وينفذ أوامره. وهو إن كان قد فقد هذه الحياة ، إلا أنها باقية في صميمخلقته ، لأنه هو فقدها زمنيا ولم يفقدها في كيانه.

ونحن لو درسنا الكتاب المقدس على ضوء هذه الحقيقة لوجدنا أنجميع حوادثه ووصاياه وتعاليمه في تدرجها وامتدادها منذ أول معاملة مع الله تنصبكلها في كيف يعيش الإنسان مع الله : " سِرْ أمامي وُكن كاملاً " ( تكوين17 : 1، " يا بني اعطني قلبك ولتلاحظ عيناك طرقي"

( أم 23 : 26 ). ولكن لما أعيي الإنسانوأخفق تمامًا في أن يلتزم بالحياة مع الله، جاء المسيح ليرفع كل العوائق والحوائلالتي تحول دون ذلك، وقدَّم نفسه وسيطًا بين الناس والله- عبرَ دمه- بل عَبرَشخصيًا أيضًا، فأعاد إلى الإنسان هدفه الأسمى هذا، مؤمَّناً عليه بعهد دم- أي هدفالحياة الأبدية مع الله كغاية عظمى للحياة. ثم صار لنا الروح القدس كمعلــِّمومربي، لو أطعناه.

قدرات الحياة مع الله موجودة في صميم خلقة الإنسان:

ولكن طبيعة الحياة مع الله خاصة جداً، ومنهج السلوك في حضرتهذو سمات معينة، والحواس المنوط بها سماع صوته والانتباه إلى تحذيراته ورؤية أعمالهوتصرفاته دقيقة جداً وخاصة جدًا. وبالاختصار فإن طريق الله يحتاج إلى حساسيةوشفافية معينة، ليست أبدًا كالتي نسلك بها في الحياة الدنيا.

كل هذه الخصوصيات وهذه النوعية المعينة من القدرات موجودةبذورها كامنة في الإنسان، فهي ليست غريبة كليًا عن طبيعة الإنسان التي خلقها(الله) أصلاً لتسمع له وتستجيب وتحيا في حضرته وتنعم بتنعماته، ولكن الفرق بينالحواس الأرضية وتلك الروحية شاسع للغاية.

ولكي أصورها لكم تصويرًا حسيًا أعود إلى تجربة خروج الإنسان مندائرة الجاذبية الأرضية وانتقاله إلى حياة الفضاء المُسماه حياة اللاوزن ، حيث يزنجسم الإنسان في الفضاء صفراً من الجرامات. هذه النوعية الغريبة من الحياة ينتقلإليها الإنسان بعد اختبار معين ثم تداريب مضنية وشاقة للغاية وعديدة في أنواعهاليستطيع أن يتكيف للحياة الجديدة.

هكذا تمامًا يكون الانتقال والتغيير في الحياة الجسدية الحسيةذات اللهو والمرح والامتزاج بالمادة والتعلق بها وتعاطف الإنسان وحواسه بمسراتهالأرضية الخاصة ، وتعلقه بأهله وصحبه تعلقًا يفوق أحيانًا حد المعقول ، ثم انفعالهبالغضب والحقد والعداوة والمرارة والضراوة والشراسة والقسوة تجاه معارضيه أوأعدائه وخصومه الأشداء، إلى حياة الروح والسكون والخلود إلى الله استماعًا وحديثًاوتعاطفًا وحبًا وعشقًا ، والاستجابة لصوته بسماع خاص ووعي خاص، باختصار ، يتحتمعلى الإنسان الذي اختار الحياة مع الله أن يتوافق في النهاية توافقًا تامًا مع هذهالحياة أخذًا وعطاءً.

هذه القدرات للحياة مع الله هي الحواس الروحية الداخلية:

هذا يسميه الروحيون وكل من اشتغلوا بالروح واشتعلوا بحب المسيحوانحازوا للحياة الأبدية وفضلوها على الحياة الحاضرة وغلَّبوها طوعًا واختيارًا ،يسمونه : " انفتاحًا على الله" أي انفتاح الحواس جميعًا وما هو فوقالحواس لتتكون لديهم حواس أخرى جديدة يتكلم عنها المسيح صراحه بقوله: " من لهأذنان للسمع فليسمع" ( مر4: 8).

فبالرغم من أن لكل الناس آذانًا يسمعون بها، ولكن المسيح هنايتطلب آذانًا تسمع صوته السري الداعي للحياة الأبدية . وفي موضع آخر ينعي أشدالنعي على الذين فقدوا حسّ السمع والنظر والفهم الروحي واكتفوا بالحواس الأرضيةالتي تعيش بها المخلوقات الأخرى غير الإنسان" " مبصرين لا يبصرونوسامعين لا يفهمون" ( مت 13 : 13 ). هنا واضح أن المسيح يقصد نظرًا داخليًاوسمعًا داخليًا وفهمًا داخيًا ، لدعوة الله القلبية التي ينادي بها كل إنسان نداءًخاصًا به وحده.

هذه هي الحواس الداخلية الروحانية المعدة لفهم وإدراك معاملاتالحياة الأبدية وهي التي تؤدي إلى تغيير جذري في الحياة الأرضية لحساب ملكوت الله،يشير إليها المسيح إشارة اللوم والانذار بالحرمان من هدف الإنسان الأعظم في الحياةبقوله:

" قلب هذا الشعب قد غلظ وآذانهم قدثقل سماعها وغمضوا عيونهم لئلا يبصروا بعيونهم ويسمعوا بآذانهم ويفهموا بقلوبهمويرجعوا فأشفيهم" ( مت 13 : 15 ).

إن حديث المسيح هنا يكشف تعمد من طرف الإنسان في سدَّ المنافذالروحية الموصلة لصوت الله إلى قلب الإنسان وتجاهلها والسلوك تجاهها سلوك العنادوالمقاومة والانكار والشك والرفض والاستهانة، كما يُفهم من كلام المسيح ضمنًا كيفيُصر الله ويلح على الإنسان ليبلغه صوته ، لا بحاسة واحدة فقط ولا بطريقة واحدةفقط، ولكن بحواس وطرق شتى من خلال القلب الروحي والأذن الروحية والعين الروحية ،وهذه كلها تشير إلى تعدد الطرق و الحواس التي هيأها الله للإنسان، كل إنسان ،ليسمع صوته الخاص ويستجيب لدعوته الخاصة جدًا للحياة معه، ليخضع ويتوب ويتغيرويعود ويحيا.

والحديث هنا كله مُنصب على كلمات ومناظر ورؤى تختص بحياة أخرىتمامًا غير تلك التي يحياها الإنسان، تتدرب عليها الحواس وتتمرن على أسرارها وعلىمتطلباتها، وهي تأتي قليلاً قليلاً في نموها وتدرجها كنمو حياة الإنسان في قامتهالجسدية، ولكنها في كل مراحلها تأتي يقينية لا يمكن للنفس أن تتغافل عنها إلا بعمىمتعمد ومقاومة واعية.

حياة التفرد الروحي هذه هي للجميع بلا استثناء:

فيلزم هذا التنبيه بشدة أن التكلم عن حياة التفرد أو الحياةالخاصة أو الحياة الداخلية مع الله وحده لا يُقصد بها حياة العزوبية أو الانعزالالفردي. فحياة التفرد الروحي والخلود إلى النفس مع الله قائمة في الإنسان، كلإنسان ، ولازمة للإنسان، كل إنسان، وهي هدف أعظم للإنسان ، مهما كان سواء أعزب أومتزوجًا أو راهبًا أو متوحدًا أو ناسكًا.

الحياة الثانية: حياة التعاون مع الآخرين( لا تتنافى مع الحياةالأولى)

والله نفسه لم يقصر حياة التفرد الروحي على وضع الفرد الطبيعيبل تتجاوز هذا التفرد تجاوزًا واضحًا صحيحًا ، حينما قال: " ليس جيدًا أنيكون آدم( الإنسان ) وحده ، فأصنع له معينًا نظيره

( تك 2 : 18 ) ، اي أن الغاية الروحيةللإنسان تتجاوز الغاية الطبيعية الجسدية له.

والهدف الطبيعي للحياة الإنسانية ، وهو التعاون بكل صوره سواءإنجاب النسل أو جهاد العمل أو احتمال المشقات أو كشف الغوامض أو مجابهة المخاطر،هذا الهدف الطبيعي للحياة الإنسانية لا يقف حائلاً ولا عائقاً لاقتناص الفرصوالأوقات لحياة التفرد الروحي والخلود إلى الله باعتبار أن هذا هو الهدف الأعظموالأهم والأبقى.

ويُلاحظ أن حياة التعاون لم تأتِ في خلقة الإنسان إلا تاليةلحياة التفرد. وحينما أوردها الكتاب المقدس لم يوردها لتنفي حياة التفرد الروحي،ولهذا لم تأتِ بصورة النفي القاطع المطلق بل بالنفي المخفف" ليس جيدًا".وبعبارة أخرى نقول إن الفرد له غاية روحية أعظم في حياته الفردية الخاصة مع الله ،وهي تأتي حتمية وضرورية ، ضرورة الحياة نفسها ودعامة أُولى للخليقة ليعيش الإنسانأولاً وأخيرًا مع الله. أما حياة التعاون فهي تأتي لاخصاب الحياة الأرضية وتسهيلمهمتها، فالأولي أبدية والثانية زمنية.

هذه الحياة الثانية ( علاقة الإنسان بالآخرين) لها هدف وغايةروحية:

ولكن من الأمور الهامة جداً والتي من أجلها أيضاً كتبت هذهالمقالة ، هو توضيح أن الحياة الجماعية للإنسان، أي علاقة الإنسان بالآخرين ، لهاهدف وغاية روحية أيضًا لا تقل بأي حال من الأحوال عن الغاية والهدف الروحي الذييعيش له الإنسان في حياته التفردية الخاصة مع الله!!

فإن كانت حياة التفرد التي يخلو فيها الإنسان مع نفسه واللهتوطئة ومدخل للحياة الأبدية اتي سيعيش فيها الإنسان مع الله ، وغيابها وإهمالها أوفقدانها يعني فقدان الحياة الأبدية ، فالحياة الروحية التي يتعامل بها الإنسان معالجماعة أو علاقة الإنسان الروحية بالآخرين هي تجسيد لملكوت الله في صميم الزمنوعلى الأرض. واهمالها أو التغاضي عنها أو رفضها هو بمثابة تعطيل لاستعلان ملكوتالله، ومقاومة علنية واعية لتكميل مشورة الله من أجل استعلان حكمته لصالح الإنسان،هذا الملكوت الذي من أجله نصرخ كل يوم وفي كل صلاة " ليأتِ ملكوتك. لتكنمشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض"( مت 6 : 10 )

الارتباط بين الحياتين ( الحياة الخاصة والحياة العامة):

وواضح أن علاقة الهدف الأول في الحياة المسيحية وهو الاستعدادللحياة الأبدية مع الله،، بالهدف الثاني في المسيحية وهو تكميل مشورة الله وتجسيدملكوته واستعلان حكمه ، هي علاقة صميمية.

فالقيم الروحية العليا التي يكتسبها الفرد من تفتح وعيه الروحيفي علاقته الخاصة بالله يكملها ويوظفها يحققها عمليًا في علاقته بالآخرين.

فعلى سبيل المثال ، إذا كنا قد اكتسبنا في علاقتنا الفردية الخاصةبالله حاسة الحب الخالص وذقنا بالفعل جوهر هذه الصفة الإلهية الفعالة التي تخرجبالذات عن اتزانها وحتى كيانها حتى يصبح الحب الإلهي إحدى المعطيات الغلاَّبة، فإنالنفس في تعاملها مع الآخرين توظف هذه الحاسة لا طوعًا فحسب، بل انغلابًا ، فتحبوهي لا تميز كثيرًا في حبها إذ تحب فوق المعقول حبًا لا يمُتُّ لواقع هذا العالمولا لاستحقاق المحبوب، بل قد تحب حتى الخصوم لأنها تحب دون أن تنظر إلى مقابل،فتحب بلا تحفظ وبسخاء، وربما تفرِّط حتى في الذات نفسها، فالحب المكتسب من اللهيخترق كل المعوقات، حتى العداوة نفسها يخترقها بسهولة ودون مجهود يُذكر ، إذ تكونالذات طوع الله وسريعة التحرك، حسب نص الآية " أحبوا أعداءكم ، باركوالاعنيكم ، صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم" ( مت 5 : 43 )، إذ يشعرالإنسان أن تيار الآية يسري داخل قلبه وعقله وجسمه كفعل النار، تستجيب له النفس عنفرح ورضى حتى الجنون كما قد يتراءى للناس أنه " جنون".

هو الحب الإلهي يتغلغل الحياتين ويكمل الهدفين ويكمل خطةالخليقة والخلاص:

هنا جوهر الحب الإلهي الذي سرى في النفس وملأها بالشبع والفرحقد أنشأ في الإنسان عملين روحيين أكملا هدفين روحيين أساسيين: الأول يختص بحياتههو مع الله ، والثاني يختص بملكوت الله.

وهكذا فإن الحياة الروحية الأولى ، أي الحياة الخاصة الفرديةمع الله، أنشأت حياة عملية روحية صحيحة مع الناس ، وهكذا فالصفات الروحية الخاصة ،والداخلية للفرد أكملت صفات روحية أخرى خاصة بالآخرين، وبدون عناء ، لأن جوهرالفعلين والصفتين واحد.

وإذ نعود إلى ذي بدءٍ ، نقول إن للإنسان هدفًا روحيًا أسمى فيحياته ، هو الحياة مع الله، يبدأ فرديًا خاصًا يختص بكل فرد في ذاته ينشئ فيه حياةداخلية ذات سمات روحية خاصة لحياته الأبدية هو ، وينتهي حتمًا بعمل أو بأعمالظاهرية تكون تجاه الآخرين هي بحد ذاتها هدف آخر في الحياة يختص بالله نفسه، إذيعمل على تحقيق ملكوته في الزمن وعلى الأرض. ومن الهدف الأول والهدف الثاني تكملحياة الإنسان وتكمل خطة الخليقة والخلاص.

بقلم الأب متى المسكين