الأنانية

إذا كان الحب هو قانون الوجود، ولم يكن مجرد شعوراً أو انفعالاً إنما هو في صميمه فعل إرادي وقرار كياني بالخروج عن الذات للقاء الآخر وللعطاء، وإذا كان كل خير بالمعنى الأخلاقي الصحيح للكلمة نابع من الحب ولا يمكن أن ينبع من غير الحب. إذاً فالأنانية أي الانحصار في الذات والانكفاء على تلبية طلباتها وإشباعها بالملذات المختلفة، الحسية والمعنوية، هي مصدر كل شر أخلاقي أو بالحري هي وحدها الخطيئة. وكل شر خارجي، بالمعنى الأخلاقي للكلمة، ليس إلا أحد مظاهر الأنانية أو أحد أعراض الداء. ليست مظاهر الشر الخارجية داء في ذاتها، بل هي أعراض فقط لداء عميق لأن الداء هو في القلب، في الأنانية التي تحاصرنا. أما إذا تحررنا من أنانيتنا عندئذ تسقط مظاهرها الواحد تلو الآخر ويبدأ تحررنا من شرورنا وهنا نقف


ونستعرض بعض أمثلة "الشرور" الأخلاقية المختلفة فنحاول تتبع أصلها:


 السرقة والاختلاس: يفكر السارق في نفسه وكيف سيستمتع بما سيسرق ولا يخطر على باله ما ستؤدي إليه سرقته من ضرر على المجني عليه وعلى المجتمع ككل. إنه يسرق ليشبع ما يراه احتياج مباشر له الآن وتتضاءل أمامه كل الاعتبارات الأخرى. وفي وسط اضطرابات اجتماعية وتغير نظم الإدارة والسياسة في مجتمعنا المعاصر، ظهرت تغيرات كثيرة في القوانين وفي نظم الإدارة تتيح فرصاً للسرقة لمن يضعف، وتضمن له " ستراً " وتغطية ومنافذ للهرب بغنيمته، وكثيراً ما يتفاخر إنسان بشرفه ليلقي الحجارة على السارقين حتى تأتي لحظة التجربة الفعلية لحظة تتاح له فيها غنيمة سهلة ويستطيع أن يقتنصها "فيستريح" ويتاح له في ذات الوقت أن ينجو من المطاردين، هنا امتحان الأنانية أو المحبة. وليس من الضروري أن تكون السرقة مادية فقد أسرق فضلاً صنعه شخص آخر لأنسبه إلى نفسي أو أسرق مكانة أو ترقية لا أستحقها، فقد أقوم مع مجموعة من الناس بعمل ما، ويقوم أحد زملائي بمجهود كبير يحقق إنجاز طيب وأطوف أنا بأصدقائي أو ربما برؤسائي في العمل أروي ما تم وكأني أنا صاحب الفضل الأول فيه. لا أكذب صراحة ولكن أؤكد علي أمور وأغفل ذكر أمور وبالتالي بخفة يد بارعة أنشل الفضل لنفسي فأحصل على مديح الجميع أو حتى أحصل على ترقية في العمل.


 الإيذاء وحتى القتل: نستفظع كثيراً أخبار جرائم القتل التي نطالعها في الصحف ونتعجب كيف يقوم الناس بها ولكننا قد نستشيط غيظاً من شخص آخر فنحلم بطريقة الانتقام منه تتضمن أفظع الفظائع ، قد تمنعنا القيود الاجتماعية أو يمنعنا الجبن والتخاذل أو الخوف على النفس من تنفيذ أحلامنا الانتقامية. ولكن في لحظة من اللحظات يتجمع فيها الغضب الكافي وظروف الحماية الملائمة ننفذ انتقامنا لأنفسنا سواء في عنف ظاهر أو خفي فنلحق الضرر المقصود بغريمنا وهذا أيضاً قتل "مصغر" أو هو من نفس المصدر والنبع وإن اختلف المظهر واختلفت الظروف الخارجية التي تشارك في الوصول إلى النتيجة.


 الغيرة: هذه فتاة جميلة عُينت حديثا في وظيفة مرموقة ً ، لم تصنع ذنباً لكن أجادت في عملها فنالت استحسان المدير وعلاوة سريعة ، فدبت الغيرة في نفس إحدى زميلاتها وتحدثت عنها بما يسوء من خلفها ثم تعمدت إهمال الجديدة وعدم الترحيب بها . لم تفكر الزميلة المـُسيئة في زميلتها بل أرضت على الفور الشعور المرير داخلها بالغيرة واستسلمت له في فعل أناني هو ذكر ما يسيء لصورة زميلتها حتى لو كان صادقاً ، لا تسر الأنانية برؤية غيرها يكرم أو يحصل على ما تشتهيه هي . ليست المشكلة في مشاعر الغيرة ، فالمشاعر دائماً ليست إلا التجربة أما السقوط فلا يكون إلا بأحد مواقف وقرارات إرادية، الغيرة هي: وضع ذلك الشعور موضع التنفيذ في قول أو فعل أو خطوة، بدلاً من أن يوضع موضع المقاومة والتجاوز.

 النميمة: هي ذكر ما يسيء لصورة الآخرين حتى لو كان حقاً بغرض تشويه صورتهم أو بدون اكتراث بما قد يصيب صورتهم في أعين الناس. في النميمة تنسى الأنانية هذا الآخر ولا تهتم إلا بالتسلية أحياناً بذكر أخبار مشوقة أو بالانتقام الخفي في أحيان أخرى. فقد قامت الزميلة التي تحدثنا عنها منذ قليل بنميمتها بدافع من الغيرة لكن الدافع الأكثر شيوعاً للنميمة هو قتل وقت الفراغ وأن يشعر المرء أنه مهم إذ يسرد أموراً لا يعرفها الآخرون، وبينما هو يحكي عن رأيه في فلان، أو يذكر عيوب فلان (الوهمية أو الحقيقية) لا يخطر على باله مصلحة فلان أو علاقته بهؤلاء الناس أو علاقته به هو شخصياً، ما يشغله الآن هو فقط لذة التحدث. النميمة صورة أخرى من الأنانية.


الزنا والنجاسة: أقصد بالزنا هنا ممارسة الفعل الجنسي خارج إطار الزواج أما النجاسة فالمقصود منها هو الاستسلام للشهوة الجنسية بالنظر أو الفكر وفيها تستخدم الأنانية الجنس وهو أرقى الغرائز البشرية. الغريزة الوحيدة التي لا يمكن ممارستها بصورتها الكاملة إلا مع شريك من الجنس الآخر، وقد تؤدي هذه الممارسة في صورتها البسيطة والكاملة إلى ظهور إنسان آخر يستلزم الرعاية والالتزام، فالجنس كما خلقه الله هو تعبير عن الحب والالتزام بالآخر والخروج من النفس إليه في فعل ملتزم وطويل المدى أو هو تعبير عن الاتحاد الكامل في الحب ولذلك ينبغي أن يصاحبه إعلان عن هذا الالتزام أمام الناس والله وهذا هو الزواج. أما الجنس خارج الزواج ( الزنا أو النجاسة ) فهو جري قصير النفس وراء اللذة المباشرة مع تشييء الآخر أو تحويله إلى شيء أو أداة للذتي فحسب. وحتى لو تم هذا بموافقته بدون التزام معلن أمام الله والناس فليس هذا إلا تشيئ متبادل، هو يستخدمني للذته الأنانية وأنا استخدمه للذتي الأنانية بدون تواصل أو التزام حب حقيقي. 


 الكذب: هو ذكر غير ما أعتقد أنه الحقيقة عن عمد وقصد. وذلك لا يكون إلا سعيا لمكسب أو لحماية نفسي من ضرر أو تحمل مسئولية فعل صنعته أو تقصير وقعت فيه. الكاذب يريد أن يحافظ على كرامته أو مركزه أو مكاسبه ولا يهمه أن خداع الآخرين وتضليلهم سيؤدي في الواقع إلى جرح علاقته بهم وقد يؤدي إلى ظلم شخص آخر أو إلى خلل في الحكم على موقف أو قد يؤدي إلى فساد مجتمع بأكمله. وهذه المظاهر المختلفة للأنانية والانحصار في الذات ليست إلا بعض أمثلة لمظاهر الأنانية - الأصل في كل الشرور، ولا يتسع المجال لذكر كيف أن اللامبالاة وإهمال الواجب و الخصام ونكران الجميل… الخ ليست إلا مظاهر مختلفة للأنانية والانحصار في الذات ونقصان المحبة


الدكتور إيهاب الخراط

كتاب حجاب الحب